بقلم: سعد الدين ابراهيم - عن القضاء خط الدفاع الأخير

طبعاً، تلقيت بارتياح شديد، مع آخرين، الحكم الذى أصدرته محكمة استئناف جنح الخليفة، برئاسة المستشار أشرف حسين، وعضوية المستشار أحمد نظامى، والمستشار أحمد عبدالجواد، برفض الدعوى التى كان قد رفعها المدعو أبوالنجا المحرزى، الذى يدّعى أنه مُحام ووكيل الحزب الوطنى فى الجيزة. كما قضت نفس المحكمة بعدم جواز انضمام مُحامين جُدد (جميعهم أعضاء فى نفس الحزب) وألزمتهم جميعاً بالمصروفات. ورغم أن هناك تقليداً مُستقراً فى مصر بعدم التعليق على أحكام القضاء، سواء «بالاستهجان» أو «الاستحسان»، فإن أحدث الدراسات التى أبدعها د. نور فرحات، وكيل كلية الحقوق وأستاذ القانون بجامعة الزقازيق، توضح بالأرقام والنسب المئوية والتواريخ الحالة التى وصلت إليها حالة القضاء فى مصر المحروسة، فى ربع القرن الأخير. وكان دليله على ذلك أن ٨٠% من أحكام المحاكم الابتدائية، يتم إسقاطها فى محكمة النقض. ومعنى ذلك أن من لا يستطيعون مواصلة التقاضى فى المستويات الأعلى من المحاكم قد ينتهى بهم الأمر إلى دفع ثمن لا يستحقون دفعه من سنوات عُمرهم، أو صحتهم، أو أموالهم، أو سمعتهم، أو هذه جميعاً. لا شىء إلا لسببين رئيسيين: أولهما: عدم كفاءة نظام التقاضى، الذى يضع على أكتاف القضاة حملاً هائلاً من القضايا التى لا يتسع وقتهم لدراستها، دراسة متأنية قبل إصدار الأحكام فيها، حتى إن متوسط نظر كل قضية لا يستغرق أكثر من عشر دقائق، طبقاً لبعض الدراسات. ثانيهما، وهو الأهم: »تسييس القضاء«، بمعنى استخدام القضاء لتسوية حسابات سياسية مع الخصوم السياسيين. ويتم ذلك بتوجيه تهم جزافية لهؤلاء الخصوم، وقد عانى هذا الكاتب (سعدالدين إبراهيم) فى عدة قضايا سابقة من ذلك ولو لم ألجأ إلى الاستئناف، ثم إلى محكمة النقض، لكنت الآن (٢٠٠٩) لاأزال سجينا،ً بسبب أحكام خاطئة، كان من شأنها أن أظل وراء القضبان ما مجموعه ١٦ سنة (٧+٧+٢)، قضيت منها حوالى ٣ سنوات، فى سجنى استقبال طُرة ومزرعة طُرة، وفقدت فيها الكثير من صحتى. وكما ذكرت محكمة النقض نفسها فى حيثيات البراءة (١٨/٣/٢٠٠٣) أن هذه المُلاحقات الظالمة، كانت بسبب مُمارستى حقى الدستورى فى »التعبير عن الرأى«. وهو نفس الحق الإنسانى الذى نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى مادته رقم ١٩. وهو الذى يُعد الأب الشرعى لكل المواثيق الدولية، والذى احتفل العالم كله بعيده الستين يوم العاشر من ديسمبر عام ٢٠٠٨. ولكن أحد مظاهر التدهور اليوم هو عدم إعمال النص الدستورى المصرى ( المادة ٤٦)، ولا النص القانونى الدولى (المادة ١٩ من الإعلان العالمى)، وهو الذى أصبح بدوره جزءاً لا يتجزأ من المنظومة القانونية المصرية، حيث إن مصر كانت من أوائل الدول التى وقّعت على الإعلان العالمى، وأقره البرلمان المصرى فى حينه. بل من مُفارقات القدر هو أن أحد العشرة الخالدين الذين صاغوا وثيقة هذا الإعلان العالمى كان الفقيه القانونى المصرى الدكتور محمود عزمى- طيّب الله ثراه- وقد فعل ذلك أيام كان مندوباً لمصر فى هيئة الأمم المتحدة. ومن الواضح أن القضاة الذى حكموا علىّ، بالسجن والأشغال الشاقة فى ثلاث مُحاكمات سابقة كانوا يجهلون هذه الحقائق. لاحظ كذلك أن السلطان يجزل العطاء لبعض القضاة فى صورة »انتداب« للعمل مُستشارين فى بعض دوائر السُلطة الأكثر أجراً، أو التعيين كمُحافظين أو وزراء، أو للإعارة لأحد البُلدان العربية الشقيقة، حيث يتضاعف الراتب عدة أمثال ما يحصلون عليه فى مواقعهم الحالية. وهو ما يعد تأثيرا واضحا من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية يضرب مبادئ ومفهوم استقلال القضاء فى مقتل.. وكل ما ورد أعلاه مُستقٍ من دراسات لأساتذة وباحثين قانونيين، مثل د. محمد نور فرحات، أو من شهادات قضاة بُحّت أصواتهم بالشكوى علناً مما ما وصلت إليه حالة القضاء المصرى، الذى كان إلى رُبع قرن فخراً لمصر وللعرب أجمعين. فأمثال الفقيه د. عبدالرازق السنهورى، ود. جابر جاد عبدالرحمن، ود.لبيب شُقير، هم الذين شيّدوا الأنظمة القضائية العربية، على شاكلة النظام المصرى، الذى كان من أعلامه زُعماء مصر. الخالدون: مُصطفى كامل، وسعد زغلول، وعبدالعزيز فهمى، ومصطفى النحاس. وقد حاول نادى القضاة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إنقاذ وترميم بنيان السُلطة القضائية، واستعادة استقلالها. ولكن السُلطة التنفيذية وقفت لذلك بالمرصاد، بل ونجحت، كما ذكرنا، فى إفساد عدد لا يُستهان به من القضاة... ولذلك حينما أُسأل فى المحافل المختلفة التى أشارك فيها- مصرياً وعربياً ودولياً- حول نقطة البداية فى إصلاح النظام السياسى المصرى، فإن إجابتى دائماً هى «القضاء». فمنذ كنت طالباً جامعياً، أدرس علم الاجتماع، وأقرأ «مُقدمة ابن خلدون»، إلى ما يقرب من نصف قرن، وأنا أتذكر ذلك الفصل من المُقدمة، وهى بعنوان »الظلم مؤذن بخراب العُمران«. وابن خلدون لمن لا يعرفه من القرّاء هو المُفكر العربى المسلم، الذى ولد فى قلعة بنى سلامة فى تونس، وعاش فى القرن الرابع عشر الميلادى، متنقلاً بين بُلدان المغرب العربى، ثم بين الممالك الإسلامية فى الأندلس، ثم انتهى به المطاف فى القاهرة، حيث عاش الجزء الأخير من حياته شيخاً فى الأزهر، وقاضياً للقضاة. وفى القاهرة كتب مُجلدات كتابه، الذى عُرف باسم مُقدمة ابن خلدون، والتى هى أساس ما يُعرف اليوم باسم علم الاجتماع. فلذلك حينما أسسنا مركزاً مُستقلاً للدراسات الإنمائية بالقاهرة (١٩٨٨) أطلقنا عليه اسم هذا المُفكر العظيم. ولأن ابن خلدون عاش وعمل، خلال حياته، فى عشرة أقطار مُختلفة، فقد رأى رؤية مُباشرة، قيام وازدهار، ثم انحسار وانهيار ممالك عديدة. وكان الانهيار دائماً بسبب تسلل السوس والفساد إلى القضاء. ومن هنا عنوان فصله المهم فى «المُقدمة»، بأن الظلم- أى غياب العدالة- هو الذى يؤدى إلى خراب العُمران البشرى، أى إلى انهيار المُجتمعات. وهذه الحقيقة نفسها هى التى ردّدها السياسى البريطانى العتيد وينستون تشرشل. فحينما اشتدت الهجمات الجوية الألمانية على بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية، وسأله الصحفيون عما إذا كان يخشى انهيار بريطانيا المجتمع والدولة؟. فأجاب بأن المجتمع والدولة فى بريطانيا سيصمدان لكل الأهوال ما داما يتمتعان بقضاء مُستقل. ولذلك نقول إن أخطر ما حدث لمصر فى السنوات الأخيرة، هو العبث بالقضاء وتسيسه واستخدامه فى معاقبة الخصوم، إلى جانب نظرة النظام نفسه للقضاء والقضاه التى بدأت تتخلى عن الاحترام والتقديس المفترض. ونحن مازلنا نذكر كيف اعتدى ضبّاط الشرطة على قضاة أمام ناديهم فى قلب القاهرة، ثم فى مطار أسوان، على مشهد من الناس، وكان المقصود هو إدخال الرعب فى قلوب القضاة. وها هو النظام نفسه الذى نجح فى التأثير على بعضهم بالامتيازات، وإرهاب البعض الآخر، نجح أخيراً فى تقويض إحدى آخر قلاعهم المنيعة، وهى نادى القضاة. إن ما يحدث للقضاء فى مصر يستحق أن تنظره محكمة شعبية، أو جبهة إنقاذ وطنية. فقبل الحديث عن أى إصلاح فى أى من جوانب حياتنا، لابد من وقف العبث بأمور القضاء والقضاة، فها هنا خط الدفاع الأخير عن حقوق المواطنين وأمن الوطن. فيا محكمة: نستغيث بك أن توقفى هذا العبث... ويا شعبنا المصرى، فلتهبّ لإنقاذ نفسك بإنقاذ السُلطة القضائية من الفساد والمُفسدين.
اللهم فاشهد